الثلاثاء، 13 يناير 2015

مسيح العالم كله (1)


مسيح العالم كله(1)


فلنبدأ رسالة الميلاد الجديد لهذا العام بأُنشودة بولس الرسول، اللاهوتية في مبناها، الإنسانية في معناها، ذات الشموخ الذي يمتدُّ بمعرفتنا للمسيح، ليرسو بها على قواعد جديدة عالية إلهية وإنسانية معاً، ممتدة حتى السماء وفي الأرض كلها، ولا حدود لامتدادها. بولس الرسول يتجاوز هنا، في وصفه للمسيح، كل معرفتنا التقليدية وألفاظنا المألوفة التي طالما تغنينا بها عن المسيح المولود في بيت لحم. كلمات الرسول هنا لازمة لنا هنا وفي هذه المناسبة لتهز أساسات التفكير المنطقي، ولتوقظ وعي الإنسان المسيحي، حتى يتعرَّف أكثر على مسيحه المولود في بيت لحم، مسيح العالم كله!!
الرسالة إلى كولوسي الأصحاح الأول من عدد 15 - 20(2):
15 - «هو صورة الله الذي لا يُرَى،
المولود قبل الخلائق كلها(3).
16 - ففيه خُلق كل شيء:
مما في السموات ومما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى.
أأصحاب عروش كانوا أم سيادات أم رئاسات أم سلاطين(4)، كل شيء خُلق به وله(5).
17 - كان قبل كل شيء وبه قوام كل شيء(6)،
18 - وهو أيضاً رأس الجسد أي الكنيسة.
الذي هو البداءة وبكر القيامة من الأموات(7)،
لتكون له الأولوية في كل شيء.
19 - فقد شاء الله أن يحلَّ به الملء كله(8)،
20 - وبه شاء أن يُصالح كل موجود(9)،
سواء في الأرض أو في السموات،
فهو الذي حقَّق السلام بدمه على الصليب».
أفيقوا، أيها السامعون، نحن هنا أمام أب البشرية كلها ورأسها الجديد، آدم الثاني الذي لا بداية أيام له ولا نهاية، الذي تحت أبوَّته ينضوي آدم الأول وينحني مع كل ذريته، وكل الخلائق تستقي من حنان أبوَّته حتى نهاية الدهور.
لقد حان الوقت أن نتعرَّف على مسيح العالم كله.
كلنا عرفنا مسيح الأسرة الملتئمة حول أب تقي وأُم تقية،
كلنا عرفنا مسيح الجمعية ومسيح الكنيسة المجتمعة حول كاهن صالح.
وقد حان الوقت أن نعرف مسيح الشارع، مسيح الناس، الناس كل الناس، الذين عرفوه والذين لم يعرفوه، مسيح الأشرار والأبرار، الصالحين والطالحين، في كل مدينة وقرية، في كل شعب وأُمة، في كل أنحاء العالم، مسيح العالم كله.
المسيح أكبر من ركن الصلاة في البيت، المسيح أكبر من صالة الجمعية وصحن الكنيسة والكنائس كلها.
المسيح لا يَرضَى بأقل من العالم كله.
-
المسيح رفض أن يبقى سجين أسرة: «مَنْ هي أُمي ومَنْ هُم إخوتي، ثم مدَّ يده نحو تلاميذه وقال ها أُمي وإخوتي، لأن مَنْ يصنع مشيئة أبي الذي في السموات، هو أخي وأُختي وأُمي» (مت 12: 49،48).
-
المسيح رفض أن يكون سجين تلاميذه، وحِكراً على تابعيه ومريديه: «يا معلِّم رأينا واحداً يُخرج الشياطين باسمك فمنعناه، لأنه ليس يتبع معنا. فقال له يسوع: لا تمنعوه، لأن مَنْ ليس علينا فهو معنا» (لو 9: 49).
-
المسيح رفض أن يكون سجين مبادئ وأفكار وآراء وأسماء: «كل واحد منكم يقول أنا لبولس وأنا لأبُلُّوس وأنا لصفا وأنا للمسيح. هل انقسم المسيح؟ ألعلَّ بولس صُلب لأجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟» (1كو 1: 13،12)
-
المسيح رفض أن يبقى سجين أماكن ومقدَّسات: «آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إنَّ في أُورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجَد فيه. قال لها يسوع: يا امرأة، صدِّقيني إنه تأتي ساعةٌ، لا في هذا الجبل، ولا في أُورشليم تسجدون للآب... الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يو 4: 20-23).
-
المسيح رفض أن يبقى سجين شيعة أو طائفة، كما أوضحه في مَثَل السامري الصالح (لو 10: 30-36).
-
المسيح رفض أن يبقى سجين وطن أو شعب أو تخوم بلاد أو أجناس أو لون: «وتكونون لي شهوداً في أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض... اذهبوا وتلْمِذوا جميع الأُمم!!» (أع 1: 8؛ مت 28: 19)
فالآن وقد عرفنا مسيح بيت لحم، مسيح اليهودية وأورشليم، فهل آن الأوان أن نعرف مسيح بلاد الدنيا كلها؟ المسيح الكامل، مسيح جميع الأُمم بلا استثناء ولا تمييز ولا تحيُّز بين شيعة وأخرى، أو طائفة وأخرى، أو شعب أو تخوم أو أجناس أو ألوان؟ «حيث ليس يهودي ولا يوناني (اختلاف الأجناس)، ختان وغرلة (اختلاف طقوس)، بربري وسكيثيٌّ (اختلاف ثقافة وحضارة)، ليس عبدٌ ولا حرٌّ (اختلاف اجتماعي وطبقي)، ليس ذكر وأنثى (اختلاف جنسي)، بل المسيح الكل وفي الكل» (غل 3: 29،28؛ كو 3: 11).
مسيح العالم كله وُلِدَ من أجل العالم كله، لأنه أحب العالم كله، ومن أجل كل العالم سُفكَ دمه، «وهو كفَّارة ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو 2: 2). فدمه لا يمكن أن يساوي أقل من العالم كله.
فلماذا نحصر حب المسيح ونكتمه، ونحكم أنه لا يكفي إلا لنا ولمن يتبعنا فقط؟ لماذا نحتكر دم المسيح لأنفسنا فقط، ونمنعه عن الآخرين الذين لا يتبعوننا وكأننا اشتريناه بتقوانا أو بمبادئنا وحكمتنا؟ لماذا نرى خطايانا تُغسل في دم المسيح مجاناً وبسهولة، وننكر على الآخرين باعتداد وعناد هذا الاغتسال والتطهير؟ مع أن المسيح لم يجعلنا قوَّامين على شرف دمه ولا نحن أكثر من مغتسلين، والدم قيل عنه بصراحة شديدة ووضوح كافٍ إنه كفَّارة «ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو 2: 2)!!
لقد عرفنا مسيح المعتَبَرين أنهم «بنو الملكوت» المدعوُّون الرسميون لعشاء المسيح وفَعَلة الساعة الأُولى من الصباح، وعرفنا مسيح ”الكاتشيزم“ والنصوص والقوانين والحدود الموضوعة. فهل آن الأوان أن نعرف أيضاً مسيح جهلة العالم والمتجاهَلين من شعوب الأرض والتائهين في شوارع الدنيا والأزقَّة وليس لهم من حدود أو قيود، وليس مَنْ يذكرهم أو يردهم؟
هل آن الأوان أن نعرف مسيح الماديين والملحدين والمستهترين من شباب الدنيا الذين لما لم يجدوا مسيحهم في كنيسة أو في أب صالح أو قدوة طيبة، المسيح الطيب الذي يحيا لهم وبينهم ويحمل خطيتهم؛ أخذوا يبحثون في الطبيعة أو في الغريزة أو المخدر علَّهم يجدون سلامهم المفقود؟!
هل آن الأوان أن نعرف مسيح هؤلاء وأولئك، المسيح المتألِّم المرفوض والمهان، التائه في شوارع المدينة وأزقتها: «اُخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقَّتها وأَدْخِل إلى هنا المساكين والجُدع والعُرج والعُمي» (لو 14: 21)؟
مسيح المرفوضين بمقتضى القوانين، والأنظمة، والتشريعات، والمعتبرين أنهم خارج الحدود وخارج السياجات: «اُخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي» (لو 14: 23).
مسيح العشَّارين والزواني: «العشَّارون والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله» (مت 21: 31).
مسيح الأشرار والصالحين: «فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل مَنْ وجدتموه فادعوه إلى العُرس. فخرج أولئك العبيد إلى الطرق، وجمعوا كل الذين وجدوهم أشراراً وصالحين. فامتلأ العُرس من المتكئين» (مت 22: 10،9).
مسيح الخطاة: «إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ» (لو 19: 7).
هل آن الأوان أن نئن على بقية أعضاء المسيح المُهانة المفضوحة في أنحاء العالم كله، التي عرَّتها الخطيئة، وعرَّاها الظلم، وعرَّاها العقل البشري؛ فتبرَّأت منها الكنيسة، مع أنها جزء من الكنيسة لأنها رسالتها، رضيت أو لم ترضَ، فهي جزء من المسيح لا يمكن أن يستحي به أو يتخلَّى عنه، لأنها جزء من آلامه ومن صليبه ومن مجده!!
هل آن الأوان أن نستكمل معرفتنا بشكل المسيح الحقيقي الذي يجمع كل هذه البشرية في نفسه وبالأخص هذا الجزء منه، القبيح في نظرنا، المستهتر والنجس والشنيع في أعيننا، الذي به وبالرغم من وجوده يبقى المسيح جميلاً كما هو، طاهراً كما هو، قدُّوساً بلا عيب!
ألم يُصلب من أجل الكل؟ ألم «يحمل خطايانا في جسده» (1بط 2: 24) على الخشبة؟ ألم يغسل العالم كله بدمه لما تخضَّب به جسده، وجسده نحن والبشرية كلها؟ «ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو 5: 8). فالصليب سابق لوجودنا، سابق لإيماننا، والدم الذي سُفك ثمناً لفداء الجميع قد دُفع كله مقدَّماً قبل أن يُدركه أحد وقبل أن يُطالب به إنسان!!
فالآن إن كنا نؤمن بالمسيح الكامل، مسيح العالم كله، آدم الثاني، أبي البشرية الجديدة الذي تبنَّى طبيعة الإنسان عامةً، لتكون له خاصة فوُلِدَ بها، ليُعلن فيها نفسه، وذُبح بها ليُقدِّسها ويُقدِّمها ذبيحة للآب، فصارت بواسطته خليقة جديدة، متبنَّاة، مصالَحة ومقبولة أمام الآب، وصار هو بها مسيح العالم كله، مسيح الطبيعة البشرية قاطبة الذي «شاء الله أن يحلَّ به الملء كله، وبه شاء أن يُصالح كل موجود» (كو 1: 20،19). إن كنا نؤمن به كذلك ونؤمن أننا به متحدون، فقد أصبحنا مسئولين بمقتضى إيماننا هذا عن وحدة الطبيعة البشرية التي في المسيح بكل شعوبها وأجناسها ولغاتها وأديانها وعقائدها وطوائفها، مسئولين عن وحدتها داخل قلبنا، داخل شعورنا وإيماننا وثقتنا، داخل وجودنا وكياننا المسيحي. هذا إن كنا حقّاً في المسيح، والمسيح فينا.
نحن لا يهمنا موقف هؤلاء الناس من المسيح، ولكن الذي يهمنا هو موقف المسيح منهم، لأن مثله تماماً ينبغي أن نكون نحن أيضاً، لأننا به متحدون!! فالمسيح مصلوب من أجل كل إنسان، وبالتالي من أجل العالم كله، ونحن ”مصلوبون مع المسيح“، ينبغي أن نكون كذلك مصلوبين معه من أجل كل إنسان مهما كان موقفه من المسيح ومنَّا، وبالتالي من أجل العالم كله!
المسيح مات بيد جماعة أظهروا نحوه عداوة قاتلة وأبغضوه حتى الموت، ولكن المسيح لم يُبغضهم لأنهم جزء منه. لذلك فرح أن يموت عنهم ليفديهم ويفدي العالم كله من الموت ومن لعنة العداوة والبغضة القاتلة!! هذه كانت ولا تزال أعلى درجة في مفهوم المحبة العملية نحو العالم، وأعظم وسيلة لجمع البشرية المتفرقة إلى واحد.
موت المسيح بيد أعداء له راضياً ومن أجلهم كان ذروة الكرازة بمحبة الله، لأن بموته امتصَّ سم العداوة وغسل خطية العالم. والآن كرازتنا للعالم ستبقى عاجزة وغير ذات قوة إلى اللحظة التي فيها نقبل أن نموت ويُسفك دمنا مع دم المسيح، لا عن أحبائنا بل عن أعدائنا والغرباء عنا وعن عقيدتنا، وعن كل الذين يبغضوننا وكل العالم. وبذلك نشترك مع المسيح مجدداً في الموت عن العالم كل يوم، لقتل العداوة وكسر شوكة الخطية وجمع المتفرقين إلى واحد «من أجلك (ومعك) نُمات كل النهار. قد حُسبنا مثل غنم للذبح» (رو 8: 36)!
هذه هي ذروة الكرازة بمسيح العالم كله، لوحدة شعوب العالم وأجناسه. وهذه هي رسالة المسيحية الأُولى والعُظمى في العالم: أن نموت من أجل العالم بلا تمييز بين إنسان وإنسان. هذه هي الرسالة التي ظلت متعطِّلة ومحبوسة في إطارات حديدية من الأنانية والطائفية والعنصرية والتعصُّب للأجناس والأديان والعقائد.
كل سنة كنا نعيِّد لميلاد المسيح، ولكنه كان حتى الآن مسيح الأسرة، مسيح العقيدة المنحصرة في ذاتها، مسيح الفضلاء والأتقياء، مسيح ذوي البشرة البيضاء. فهل آن الأوان، يا إخوة، أن نُعيِّد لميلاد مسيح كل العالم؟ مسيح كل عشيرة تُسمَّى على الأرض وفي السماء، من كل أُمة ولسان وبشرة سوداء وصفراء وحمراء؟ مسيح كل مَنْ يُنادي باسم الرب ولو لم يعرفه؟ مسيح مساكين الأرض الذين لا يعرفون شمالهم من يمينهم؟ مسيح خراف العالم الضالة والمشرَّدين شباناً وشابات، مسيح الخطاة والعشَّارين والزواني وكل الجالسين في الظلمة وظلال الموت يترقَّبون إشراق نور الخلاص.
فهذا هو المسيح الحقيقي الذي وُلِدَ في بيت لحم، وصُلب فوق الجلجثة، مسيح العالم كله.
(يناير 1970)


(1) من كتاب: ”أعياد الظهور الإلهي“، الطبعة الثالثة: سنة 1992، ص 113-119.
(2) الطبعة الكاثوليكية الحديثة ببيروت.
(3) أي مولود غير مخلوق، قبل الخلائق وأعظم منها جميعاً بما فيها رتب الملائكة جميعاً.
(4) أسماء الرُّتب الملائكية.
(5) كل خليقة تستمد وجودها وبقاءها من المسيح، وفي المسيح ينتهي القصد من خلقتنا، فهو المبدأ والنهاية، العلَّة والغاية لكل حياة ونظام.
(6) هو نفس الهامش رقم (5).
(7) أي مبدأ الحياة الأبدية وسببها فهو أول مَنْ قام ولا قيامة إلا به.
(8) بمعنى ملء اللاهوت الذي حلَّ في الجسد.

(9) أي أكمل الصلح والانسجام بين الخلائق معاً، وبين الخلائق والله. فقد صالح السمائيين مع الأرضيين، وصالح السمائيين والأرضيين مع الله. وهذه المصالحة إجمالياً تشمل الطبائع والأجناس تمهيداً للمصالحة الفردية التي ينبغي أن تتم بطاعة كل فرد للمسيح واغتساله بالدم، دم الفداء والتكفير والتطهير.

الاثنين، 29 ديسمبر 2014

“عجيبـاً”


في الأدب اللاهوتي:
ألقاب المسيح:

“عجيبـاً”
«ويُدعَى اسمُه عجيباً»
(إش 6:9)
The Wonderful

للأب متى المسكين
ol]lo
لا يوجد أعجب من أن يكون المسيح هو: » الله ظهر في الجسد! «(1تي 16:3)
ساكن السموات، والسموات غير طاهرة لديه، ورجلاه تطآن أرض شقائنا.
النور والساكن في النور، يغْشَى عالمنا ويضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت.
بهاء مجد الله ورسم جوهره، يتشبَّه بنا، ويأخذ شكل العبد.
الجالس على كرسي مجده، يتقبَّل تسبيحات ملائكته،
ينزل إلى الدروب والحارات يبحث عن الخاطئ بين الطين والأوحال.
الوجه المضيء الذي كان لا يراه إنسان ويعيش، نظرناه من خلف غلالة الصليب وذُقنا واشتركنا فيه.
مصدر الطهر والقداسة والجلال، يتآخى مع الخطاة ويجلس مع العشَّارين والزناة.
الذي لا تثمِّنه تلال من ذهب، وجبال الماس تُسترخص؛ يبيعه الإنسان بثلاثين من الفضة.
يُسْكِت ملايين الهاتفين مجداً، ويأمر فتصمت ربوات المسبِّحين؛ ليسمع بكاء مسكين، أو أنين إنسان مظلوم مُهان.
والأُمُّ تنسى رضيعها، وهو لا يتخلَّى عمَّنْ اتكل عليه ولا إلى لحظة.
ديان الأرض كلها، وقاضى المسكونة طُرًّا؛ رَضِيَ بظلم هيرودس، وقَبِلَ حكم بيلاطس، وقَبِلَ أن يُصلب.
راهن عليه الفريسيون والكتبة، وتحدَّاه رؤساء الكهنة أن ينزل عن الصليب إن كان هو ابن الله؛ وكان هو الله، وما نزل.
رهانُهم أرادوا به أن يُداروا ظلمهم، وتحدِّيهم كان ليخفوا جريمتهم؛ فقَبِلَ أن يخسر الرهان ليؤكِّد ظلمهم، وتحدَّى التحدِّي بقيامته.
ربُّ الحياة ومعطيها، بالحب مات على الصليب، ليهب الحب والحياة لكل خاطئ آمَنَ بالحياة، ومعطيها!
فهل يُنسب لله بعد ذلك ظلمٌ بعد أن قَبِلَ بموته الظلم وغفر لظالميه!؟
لا تعجب أن يقبل الله الموت بالجسد ظلماً، بل اعجب: كيف أمات الموتَ لَمَّا قام بجسده حيًّا، وأحيا به المائتين ظلماً!؟
وحياته التي أقام بها الجسد، بالسر أسكنها في خبزة محبة، نأكلها فيسكن فينا سر الحب والقيامة.
ثم ليزيد العجبَ عجباً، جعل كلَّ مَنْ يؤمن أن الله قادرٌ أن يغفر للفاجر فجره، يُحسَب له إيمانه برًّا!!
لأنك إن آمنتَ بالله وحسب، فالكل يؤمنون؛ ولكن أن تؤمن بأقصى رحمته، يُحسب إيمانك لك برًّا.
لذلك، ألبَسَ اللهُ ابنَه جسداً ليحمل على صليبه بالموت أشنعَ الخطايا وعارها؛
فكلُّ مَنْ آمن بموته وعاره، صار إيمانه له برًّا.
عجيب هو المسيح هذا الذي صُلِب من أجل الخطاة والزناة والفجَّار، ليؤكِّد لك أن الله رحيمٌ.
الله لما رأى أن خطاة الأرض استنفدوا كلَّ حقِّهم في الحياة، أرسل ابنه ليحمل كل خطاياهم ويجدِّد للعالم حقهم في الحياة.
عجيب هو المسيح الذي قَبِلَ اتهام رؤساء اليهود، حينما نسبوا إليه جميع الخطايا، وطلبوا أن يُصلَب؛ فقَبِلَ راضياً ولم يحتج، ليدفع على الصليب ثمن كل الخطايا رسمياً، وبحكم القانون.
ثم عجبي على الذي يرفض الصليب ويهينه، وكأنه يحجز كل خطاياه للحكم!!!
(نوفمبر 1995)





الأحد، 20 أكتوبر 2013

الجهاد الروحي ضد الخطية أو حتمية الموت من أجل الحياة

للأب متى المسكين

أول تعامُل للمسيح مع خطية الإنسان كان على الصليب، إذ لَمَّا مات المسيح، مات بالجسد الذي أخذه منَّا وعليه كل خطايا الإنسان. فمات الإنسان العتيق وماتت خطاياه:
+ » عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية. «(رو 6:6)
فالذي صنعه المسيح في جسد البشرية العتيق، أعطى للكنيسة أن تصنعه فينا بسرِّ المسيح:
+ » أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت. «(رو 3:6و4)
لأن المبدأ اللاهوتي الذي يبني عليه بولس الرسول استلام كل أعمال المسيح كحقٍّ لنا، هو أننا بالإيمان والعماد باسم الثالوث نكون قد اتَّحدنا بالمسيح، فكل ما جَرَى للمسيح هو لنا.
تسأل: وما قيمة أننا قبلنا الموت الذي ماته المسيح من أجل الخطية في جسدنا؟ يقول بولس الرسول: «لأن الذي مات قد تبرَّأ من الخطية» (رو 7:6). وكيف يكون ذلك؟
الجواب: موت المسيح على الصليب أخذه من قِبَل السنهدريم ومحكمة الرومان وبموافقة الله الآب على أنه حامل خطايا، وبنفس الحُكْم الذي اعتبره الله أنه هو ذات الحكم الذي حَكَمَ به على آدم وذريته، لأنه كان بسبب خطيته.

فالمسيح باحتمال الحُكْم بالموت واللعنة على الصليب بذات جسد الإنسان ككل، يكون قد أوفى كل الحُكْم الذي وقع على الإنسان، على ذرية آدم، وخلَّصه من لعنة الخطية والموت.
وهكذا باتحادنا بالمسيح وقبولنا حُكْم الموت معه بالجسد على الصليب نكون قد أخذنا البراءة من حُكْم الله على آدم وذريته، وبالتالي نلنا الحياة معه:
+ «فإن كنا قد مُتنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه.» (رو 8:6)
ولكن موتنا مع المسيح هو هو أن » إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية «
فما هو واقعنا نحن الآن في هذا العالم؟
يقول بولس الرسول: «كذلك أنتم أيضاً احْسِبُوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياءً لله بالمسيح يسوع ربنا» (رو 11:6). وذلك على أساس ما قلناه سابقاً إن «إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه ليُبْطَل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية».
ما معنى هذا؟
معناه: إن الخطية أماتتنا مع المسيح مرة واحدة على الصليب، وقد قمنا أحياءً معه خليقة جديدة، كإنسان جديد؛ فلا يمكن بل ومستحيل أن تميتنا الخطية - ونحن كخليقة جديدة - مرة ثانية، لأننا قد صرنا أحياء مع المسيح لله بالجسد الجديد الذي للإنسان الجديد:
+ «عالمين أن المسيح بعد ما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد. لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة.» (رو 9:6و10)
وما تمَّ للمسيح تمَّ في الواقع لنا. إذن، فقول القديس بولس شديد الوضوح، ويُعطي حقيقة إيمانية لاهوتية صادقة أنَّ:
1 - جسد الخطية قد أُبطِلَ سلطانه، إذ قد صار لنا الإنسان الجديد بسلطان الله. وسلطان الجسد العتيق وسلطان الإنسان الجديد يظهران بوضوح حينما يتدرَّب الإنسان الجديد ويصبح له سلطانٌ من الله فوق الجسد العتيق، وهذا يظهر حينما يُهان الإنسان ويُمتهن؛ فحينما يهم الجسد العتيق بالتذمُّر والرد ينبري الإنسان الجديد بسلطانه الروحي ويقمعه، فيهدأ ويصمت، وحينئذ يبتسم الإنسان ويفرح إذ قد انتصر: » فرحين في الرجاء «(رو 12:12)، » نُشتم فنُبارِك. نُضْطَهَدُ فنحتمل «(1كو 12:4). وهذا هو الجهاد ضد الخطية.
2 - نعتبر أنفسنا أمواتاً عن الخطية، وهذا بالنسبة للذين قبلوا الخليقة الجديدة ولبسوا الإنسان الجديد. فالخطية لا تؤثِّر في مَنْ لَبِسَ الإنسان الجديد ولا تُميته ثانية. لذلك حُسِبَت بالنسبة له فقط أنها
ماتت حتى وإن كانت تستطيع أن تعمل في الجسد العتيق للإنسان العتيق رغماً عن إرادة الإنسان الجديد، وحيث يصبح عملها في الإنسان العتيق كالضرب في جثَّة ميِّتة بالنسبة للإنسان الجديد العائش بالنعمة:
+ » أشكر الله بيسوع المسيح ربنا! إذاً أنا نفسي بذهني (الإنسان الجديد) أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد (العتيق) ناموس الخطية. إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد (العتيق) بل حسب الروح (الإنسان الجديد). «(رو 25:7؛ 1:8)
وهذا هو الجهاد الروحي ضد الخطية. أما خطايا الإنسان العتيق، فبالاعتراف تُمحى ليصبح لنا “ضمير عدم خطية.” (عب 2:10)
3 - إن الخطية وموت الخطية لم يعودا قادرَيْن أن يستعبدانا ثانيةً، لأننا نحيا في المسيح، والمسيح ألغى الخطية وموت الخطية لنا في جسده.
ويزيد على ذلك بولس الرسول:
4 - «فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم (بعد أن قمتم مع المسيح) لستم تحت الناموس بل تحت النعمة.» (رو 14:6)
هذا ما قدَّمه المسيح لنا بتجسُّده وموته على الصليب في جسد بشريتنا حاملاً خطايانا في جسده على الخشبة لكي يرفع عنَّا حكم الموت واللعنة، ويرفع عنَّا ظلمة الخطية وسلطانها القاتل، ذلك بإلباسنا الإنسان الجديد الذي يتجدَّد على صورة خالقه في البر وقداسة الحق؛ وهو في ذلك، مع الجسد الجديد، الخليقة الجديدة التي اقتنصها لنا بقيامته من بين الأموات في جسده، سلَّمنا أيضاً الجسد العتيق ذاته وهو في حالة شبه ميِّتة والخطية ميِّتة فيه:
1. وقد أبطل سلطانه لكي لا نعود نُستَعْبَد أيضاً للخطية.
2. ومحسوب أنه (أي الجسد العتيق) ميِّت، والخطية شبه ميِّتة فيه، أي ليس لها قوة الإلقاء في جهنم. بمعنى أن الخطية شبه مقتولة فيه وليس لها قدرة السيادة أو الحكم بالموت.
3. وقد وهب الله الإنسانَ الجديد أن يتخلَّص من ثقل الخطية العاملة في الجسد العتيق بواسطة الاعتراف لمحوها من الضمير إلى الأبد.
هذه هي بركات الصليب التي ورثناها في جسدنا العتيق ذاته، وهو الإجراء العظيم الذي حصل عليه المسيح ضد الجسد العتيق وسلَّمنا الجسد العتيق شبه ميِّت من جهة الخطية، وأعمال الخطية فيه واقعة تحت الشطب المباشر والمحو من الضمير بالاعتراف بها وأخذ الحلّ عنها.
+ «وإن كان المسيح فيكم، فالجسد (العتيق) ميِّت بسبب الخطية، وأما الروح (الإنسان الجديد) فحياةٌ بسبب البر.» (رو 10:8)

وهكذا بنصرة الإنسان الجديد (الروح) انقلب الأمر، فبعد أن كانت الخطية تستعبد الإنسان أصبح الإنسان الجديد بمعونة الروح يستعبد الإنسان للبر. وهكذا تمّ القول: » إذ أُعْتِقْتُمْ من الخطية صرتم عبيداً للبر «(رو 18:6). وهنا قول بولس الرسول: » أقمع جسدي وأستعبده «(1كو 27:9)، يعني قمع جسده العتيق بالروح حتى لا يميل للشر ويستعبده بالنعمة لعمل الخير والبر والصلاح.
وبماذا نشبِّه هذا الذي عمله المسيح في جسدنا العتيق وفي الخطية؟
يُشبه إنساناً قد قُيِّد بقيود تحرمه من حرية إيذاء ذاته، وقد سلَّمه المسيح الخطيةَ مطعونة بالحربة ومكسورة شوكتها السامة ومنزوع السم منها، ولا تستطيع أن تُميت بعد. وسلَّمنا هذا الجسد العتيق مع الخطية ميِّتة فيه كأمانة في عهدة الإنسان الجديد:
+ » وإنما أقول: اسلكوا بالروح (بإرادة الإنسان الجديد) فلا تُكمِّلوا شهوة الجسد (العتيق). لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يُقاوِم أحدهما الآخر، حتى تفعلون (إرادة الإنسان العتيق) ما لا تُريدون (بحسب الإنسان الجديد). ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس (أي ليس تحت خطية أو دينونة). «(غل 16:5-18)
علماً بأن الإنسان الجديد هو خليقة الله التي على صورة خالقها في البر وقداسة الحق، وهي مُعانة وتحيا بالنعمة ومنقادة بالروح القدس، وقد استودعها المسيح قوة وصاياه لكي تعمل لحساب خالقها وتشهد له.
وأول الوصايا التي استعلنها بولس الرسول لكي يمارسها الإنسان الروحي بالنعمة التي فيه، هي قمع الجسد العتيق واستعباده (1كو 27:9) ووضعه في حدوده الميِّتة التي رسمها له المسيح. فنحن استلمناه منه والخطية ميِّتة فيه، ولابد أن نسلِّمه له والخطية ميِّتة فيه:
+ «أميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الرديَّة، الطَّمع الذي هو عبادة الأوثان، الأمور التي من أجلها يأتي غضب الله على أبناء المعصية.» (كو 5:3و6)
هذه الوصية حينما يسمعها الإنسان الذي وضع في نفسه أن يجاهد ضد الخطية يقف حائراً: أيُّ أعضاءٍ نُميت، وهي خطايا كالنار إذا تلامس الجسد معها التهب كله بها كالنار! فالإرادة حاضرة، نعم، والتصميم على حياة القداسة والبر موجود؛ ولكن أن يعمل الإنسان، فإنه يجد أن المهمة أعظم من إمكانياته.
فالمعروف أن الجسد العتيق متعاهد مع الخطية يحبُّها وتجذبه وينجذب إليها بسلطان يفوق إمكانيات الجسد العتيق. فالجسد معجون بالخطية وهي تنبض في كل خلية من جسمه، والمطلوب
منَّا أن نُميت أعضاءه التي هي كله!! فلن نستطيع أن نميت الخطية إلاَّ إذا أمتنا الجسد، والجسد لن يكف عن أن يعمل للخطية إلاَّ بالموت! هذا هو الذي رآه المسيح ونفَّذه.
بهذا أصبحت حقيقة كل أعمال إماتة الجسد التي نقوم بها بواسطة أعمال جسدية مهما عظمت واشتدت وبذلنا فيها الدم، لم ولن تجعل الجسد يكفّ عن الخطية، لأن الخطية عنصر قائم في الجسد.
ففي أحسن الأحوال إذا نجحت أعمال الجسد من قسر وقمع وتضييق شديد فإنها قد تتغلَّب على بعض الخطايا، ولكن لن ينجح إنسان في العالم في إبطال كافة الخطايا من الجسد (وإلاَّ ما كان المسيح قد رسم الصليب). والإنسان الذي ينجح في التغلُّب على بعض الخطايا بالجهد الذاتي وبالإرادة الصلبة فإنه يحس في أعماقه بأنه انتصر بالإرادة، في حين أن هذه الإرادة بالذات في المنهج الخلاصي يتحتم أن تموت بإنكار الذات لتنتصر النعمة ويصبح الخلاص بالنعمة. وحتى إن نجح واحد بالكف عن بعض الخطايا بجهاده الشخصي، فهناك آخر مجتهد جداً سيفشل وييأس ويستسلم.
هنا ينقذنا بولس الرسول من هذه الورطة الزمانية التي دوَّخت الأجيال لينقلنا من جهاد الجسد إلى جهاد الروح الذي هو عمل وموهبة الإنسان الجديد المُعان من الله والمسيح:
+ » ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون. لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله. «(رو 13:8و14)
هنا ارتفع بنا القديس بولس من دوامة الجسد العتيق الذي يستحيل أن نعتمد عليه في إبطال الخطية منه لأنها جزء حيّ فيه، ووضعنا في دائرة الإنسان الروحي الجديد الذي يحيا وينقاد بروح الله، وهذا من صميم عمله: » لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت. «(رو 2:8)
فالآن نحن نتيقَّن أننا متنا عن الخطية بصليب ربنا يسوع المسيح كما يقول بولس الرسول: » لأنكم قد مُتُّم (عن كل ما فيكم) وحياتكم مُستترة (الآن) مع المسيح في الله. «(كو 3:3)
نحن هنا لا نسعى في الحقيقة إلى تشديد الجسد العتيق ولا نأمل أن نوقف حركة الخطية فيه بالتجائنا إلى أعمال وقوانين جسدية. إن الجسد العتيق مُحال أن يميت الإنسان العتيق، إنها خدعة انخدع بها مئات وألوف من الوعاظ والمرشدين ووضعوا لها قوانين حرفية وتدريبات ومشورات لا تنتهي. في حين أن الجسد العتيق لن يُقمع إلاَّ بالروح، ولن يُحارَب إلاَّ بالكلمة التي هي سيف الروح، ولن يكون هناك منهجٌ كفؤٌ لإماتته إلاَّ الإنجيل وروح المسيح. فليس من المعقول أن نُحارِب عدواً ساكناً في أعضائنا ونحن نطعمه كل يوم بمخالفاتنا ونسقيه بجهالاتنا. فالإماتة هي إماتة بالروح وليس إماتة بالجسد.

والإماتة الروحية الحقيقية تبدأ حينما يبدأ الجسد الجديد يحس بوجوده ويستلم سلطانه على الذات ويُمارِس تقواه بالكلمة التي تزيده سلطاناً إلهياً قادراً أن يهدم حصوناً للعدو، كما يقول القديس بولس، ويستأسر كل فكر لطاعة المسيح (2كو 4:10و5). فالإنسان الجديد حينما تسكن فيه كلمة الإنجيل بغنى، ترفع من قدراته على مقاومة كل شهوات الجسد العتيق وكل الدنيا، ويتسامى بفكره فوق تصوُّرات الخطية ويتقدَّس كل يوم بقوة الكلمة، فتضمحل الخطية بكل حركاتها وتصوُّراتها من أعضاء الإنسان شيئاً فشيئاً. وهذا هو معنى: «أميتوا أعضاءكم التي على الأرض».
أما من جهة الصوم والصلاة والدموع والسهر وكل أعمال النسك الحميد، فهذه لم تَعُدْ أثقال الجسد العتيق نجرها وراءنا ونمارسها بالضيق والعبوسة والكآبة؛ بل هي في حقيقة الروح، زينة الإنسان الجديد، ومن صميم عمله الروحي ومسرته التي يجدِّد بها الحياة والتقوى كل يوم، يمارسها بالفرح والترتيل، فهي تعبير محبته للمحبوب، والذي يتقنها ما عاد يطيق أن يحيا بدونها حتى ولو صار شيخاً.
ولكن لعل أعظم وأقوى العوامل الإيجابية في حفظ حياة الإنسان المسيحي هو دراسة الإنجيل دراسة استيعاب وحفظ وتمرُّس مستعيناً بكل الكتب التي تشرح الإنجيل. علماً بأن السهر في قراءة الإنجيل هو للتأمُّل وتصوُّر حياة الإنسان مع الله منذ بدء سفر التكوين، حيث تصبح جميع قصص المكافحة لحساب طاعة الله وحبه شهوةً للنفس ومسرَّةً للروح. بل إن دراسة الكتاب المقدس هي لمعرفة دقائق أسرار الله والتعرُّف على فكر المسيح: » أما نحن فلنا فكر المسيح «(1كو 16:2). وهذا هو الذي يقوله بولس الرسول: » ولبستم الجديد (الإنسان) الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه «(كو 10:3). فهنا معرفة أسرار الله والمسيح بدراسة عميقة متأنية لمزيد من المعرفة الروحية تدخل داخل القلب والذهن، فتُجدِّد بقوة النعمة والروح القدس الذي فيها فكر الإنسان ووعيه، وهكذا يزداد يوماً بعد يوم في معرفة المسيح عن قُرب فتلتصق نفسه به: » وُجِدَ كلامك فأكلته فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي «(إر 16:15). ولعل أقوى الآيات التي عرفتها وقدَّستها وبَنَتْ حياتي هي قول المسيح: » الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. «(يو 24:5)
وهكذا تبقى معادلة الخلاص والصليب قائمة باعتبار أن قوة الحياة هي وحدها التي تقف في مواجهة الموت الذي تهدِّد به الخطية - والقداسة وحدها هي التي تُبْطِل الخطية - والإنسان الجديد هو وحده الخليق بإبطال حركة الخطية في الإنسان العتيق وانتزاع النصرة بمعونة الروح لتمجيد الله.
وإلى هنا نكون قد انتهينا من متاهة الجهاد الجسدي التي أضلَّت أجيالاً برمتها.
(1999)





نشرت بمجلة مرقس عدد فبراير 1999


(*) نُشرت المقالة الأولى في العدد الماضي (يناير 1999) بعنوان: 1 - “رسالة للخطاة فقط”.