للأب متى المسكين
النعمة :
النعمة عند القديس بولس هي محور إدراك جميع
الاصطلاحات المختصة بالخلاص، ولكنها هي بذاتها اصطلاح عريض. فمثلاً إذا أُعطيتْ
النعمة في الصلاة إلى الله صار معناها “شكر ”: » فشكراً لله ،
أنكم كنتم عبيداً للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلَّمتموها «(رو
17:6). أما إذا قدَّمها إخوة معاً كجماعة، فهي تُحسَب “إحسانات أو تقدمات شكر”: » ومتى حضرتُ، فالذين تستحسنونهم أُرسلهم برسائل ليحملوا
إحسانكم . «(1كو
3:16)
والنعمة اصطلاح مراسلات تُفتتح به الرسالة وتُختم: » نعمة لكم وسلام «(رو 7:1)، » نعمة ربنا يسوع معكم «(1تس 28:5). ولكن معناها ووجودها الرئيسي هو
في التعبير عن الخلاص كعملٍ من الله: » متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع
المسيح «(رو 24:3). وفي هذا الاعتبار يتحتَّم أن
“النعمة” تكون مجانية.
+
كذلك، فالنعمة عند بولس الرسول، تحقَّقت بالصليب: » لستُ أُبْطِل نعمة الله. لأنه إن كان بالناموس
برٌّ، فالمسيح إذاً مات بلا سبب «(غل 21:2). وهذا يعني أن العودة إلى الناموس
بمثابة إبطال لنعمة الصليب.
+ فإن كان عطاء الله كله يتمثَّل في الصَّلْب، فهذا يكون
أصل ومنشأ النعمة.
+ ومضمون النعمة وتركُّزها في الصليب يجعل أي اجتهاد نحو
الصلاح باطل عند بولس الرسول.
+ لأن النعمة غير مرتبطة إطلاقاً بأي سعي للإنسان،
وإلاَّ لا تُسمَّى نعمة. فالذي يستقبل النعمة يستقبلها دون سابق انتظار أو
استحقاق. فمن طبيعة النعمة أنها تلغي بحدوثها كل استعداد بشري سابق. فهي في عملها
الرسمي تجعل “الخاطئ بارًّا” أو “تبرِّر الخاطئ”. لذلك من الخطأ إدخال أي عنصر آخر
يمهِّد للنعمة أو يسهِّل عملها، فعملها يتم في المستحيل: » لأنكم بالنعمة مُخَلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو
عطية الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد «(أف 8:2و9). والذي يؤمن (بالله) الذي يُبرِّر
(يُعطي النعمة) الفاجر، فإيمانه يُحسَب له برًّا (أي نعمة)، » إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله (بره)، متبرِّرين مجاناً
بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. «(رو 23:3و24)
+ ونعمة الله في طبيعتها شاملة تحتوي الجميع: » لأن الله أغلق على الجميع معاً في العصيان، لكي يرحم
الجميع. «(رو 32:11)
+ وهي مُعطاة أو غُصِبتْ لكل مسيحي بلا فرق أو
تمييز: » أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة الله
المُعطاة لكم في يسوع المسيح. «(1كو 4:1)
+ وأخصّ خصائص
النعمة أنها هبة مجانية مطلقة بلا ثمن ولا جهد ولا استحقاق: » أما الذي يعمل فلا تُحسب
له الأُجرة على سبيل “نعمة”، بل على سبيل دَيْن «(رو 4:4). بمعنى أن الإنسان الذي يعمل ويجتهد، فالنعمة تشمله
تماماً كالذي لا يعمل، وحينئذ لا تُحسب النعمة المعطاة له على أنها أجرة
عمله، بل على سبيل دَيْن يتحتَّم أن يسدده بالشكر. ثم أوضحها جداً بقوله: » وأما الذي لا يعمل، ولكن
يؤمن بالذي يُبرِّر الفاجر، فإيمانه يُحسَب له برًّا. «(رو 5:4)
+ ثم من خصائص النعمة أنها ضد الناموس الذي يُطالِب
بالعمل وإلاَّ فإنه يوقِّع العقوبة: » فإن الخطية لن تسودكم (لماذا؟)، لأنكم لستم تحت
الناموس بل تحت النعمة (نعمة يسوع المسيح). «(رو 14:6)
والنعمة شيء والتبرير شيء آخر، إذ أن التبرير يتم بالنعمة،
فالفداء أعطى نعمة التبرير أي الخلاص من الخطية بجدارة برِّ المسيح: » متبرِّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح «(رو
24:3)، » حتى كما ملكت الخطية في الموت، هكذا تملك النعمة
بالبر، للحياة الأبدية، بيسوع المسيح ربنا. «(رو 21:5)
والنعمة
يمكن أن تكون حدثاً أو فعلاً يتم، وممكن أن تكون حالة نعيشها:
كحالة:
+ » الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان، إلى هذه النعمة
التي نحن فيها مُقيمون، ونفتخر
على رجاء مجد الله. «(رو 2:5)
على رجاء مجد الله. «(رو 2:5)
كفعل:
+ » ولكن لَمَّا سَرَّ الله الذي أفرزني من بطن أُمي، ودعاني
بنعمته. «(غل 15:1)
والنعمة كفعل تأتي غالباً ومعها فعل العطاء: » ثم نُعرِّفكم أيها الإخوة نعمة الله المُعطاة في كنائس
مكدونية. «(2كو 1:8)
ونعمة الله حينما تحل أو تُعطى للإنسان فهي تكفيه عن أي
مطلب آخر: » تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكْمَل. «(2كو
9:12)
قـوة النعمــة:
+ إن أعظم مفاعيل النعمة علينا هو انتصارها فينا
على الخطية التي دوَّختْ الجنس البشري، وقد أدخل الله النعمة في حياتنا لتقتلع
جذور الناموس والخطية من فكرنا وضمائرنا.
+ » وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية. ولكن حيث
(بالرغم) كَثُرَت الخطية ازدادت النعمة جداً، حتى كما ملكت الخطية في الموت، هكذا
تملك النعمة بالبر (بر المسيح فينا)، للحياة الأبدية، بيسوع المسيح ربنا. «(رو
20:5و21)
+ » لأن جميع الأشياء هي من
أجلكم (قيامة المسيح من بين الأموات)، لكي تكون النعمة وهي قد كَثُرت بالأكثرين،
تزيد الشكر لمجد الله. لذلك لا نفشل، بل وإن كان إنساننا الخارج (الجسد العتيق) يَفْنَى، فالداخل (إنساننا
الجديد مسكن النعمة) يتجدَّد يوماً فيوماً. «(2كو 15:4و16)
+ على أن قياس قوة النعمة فوق الخطية لا تُقاس بالكمية،
ولكن من جهة الطبيعة وخصائصها فهي ليست متفوقة على الخطية ونتائجها أي الموت. وإن
كان الموت يأتي حتماً كنهاية للجسد العتيق كنهاية عقابية للأعمال، ولكن النعمة
تأتي كاختبار حرٍّ من الله: » فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقية حسب
اختيار النعمة. فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال، وإلاَّ فليست النعمة بعد نعمة. «(رو
5:11و6)
فالنعمة بكل المقاييس معجزة بحسب تفسير الإنسان
المنفتح البصيرة.
+ وقوة النعمة أنها تجمع لنفسها الكنيسة كشركة: » أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة «(في
7:1)، » ثم نُعرِّفكم أيها الإخوة نعمة الله المُعطاة في
كنائس مكدونية «(2كو 1:8). ونحن نسمعها من بعض الأشخاص
المتقدِّمين في المحبة والروح في قولهم: “هذا أخونا في النعمة”. فالشركة مع المسيح
تُنشئ حتماً شركة في النعمة.
+ وقوة النعمة تتحوَّل إلى عمل صالح: «والله قادر
أن يزيدكم كل نعمة، لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء، تزدادون في كل
عمل صالح» (2كو 8:9). ويُلاحِظ القارئ هنا معادلة هامة وعجيبة أن الاكتفاء
(القناعة) في كل شيء كل حين شرط لزيادة النعمة وبالتالي العمل الصالح. لذلك يحثنا
بولس الرسول حتى لا يكون قبولنا للنعمة بلا عمل أي باطلاً: » فإذ نحن عاملون معه نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً «(2كو
1:6). هنا النعمة تُنشئ العمل الصالح، ولكن العمل الصالح لا يُنشئ نعمة.
الرحمة تسبق النعمة:
حينما بدأ الله تصميمه على عمل الخلاص للإنسان كإنعام من
عنده، كان الدافع الأول عنده هو الرحمة، لأن الإنسان بعد أن استُعبِد للخطية
فَقَدَ القدرة أن يرفع نفسه من عبوديتها بجهده الخاص، لذلك تعيَّن أن يمدَّ الله
يده له بالرحمة. فهذه الرحمة الإلهية لم يكن يستحقها الإنسان الذي ابتعد عن الله
بإرادته وعصي أوامره. فأصبح ليس له الحق في الرحمة ولا هو يستحقها، لذلك حُسِبَت
رحمة مجانية. وبهذا أصبح عمل الرحمة جائزاً للجميع بلا تمييز: » لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا الله، الذي يريد أن جميع
الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يُقبِلون. «(1تي 3:2و4)
ويبرهن بولس الرسول على ضرورة شمولية الخلاص “جميع الناس
يخلصون” بأنه يوجد إله واحد للجميع، والجميع ينبغي أن يعبدوه: » لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان
يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع، الشهادة في أوقاتها الخاصة «(1تي
5:2و6). فإن كان المسيح مات فدية لأجل الجميع، إذن أصبح مطلوب الخلاص للجميع، خاصة
أن المسيح هو الذي أرسله الله للعالم! ولأن الله واحد ويوجد وسيط واحد بين الله
والناس جميعاً، لذلك أصبح الخلاص ضرورة ملحَّة لجميع الناس.
وقول
بولس الرسول عن سَبْق تدبير الله ومسرة إرادته لخلاص جميع الناس، عبَّر عنها أيضاً
في رسالة أفسس:
+ » ...
الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويَّات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس
العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي
بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته... إذ عرَّفنا بسرِّ مشيئته، حسب مسرَّته
التي قصدها في نفسه، لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح. «(أف
3:1-10)
هنا قصد الله يأتي تلقائياً من نفسه بحرية، بل بمسرة إرادته
من جهة فعل نعمته. ولأنها بمسرة إرادته، أصبحت مجانية وشاملة لا تعتمد على
استحقاقات إنسان ما.
ولأن النعمة إلهية فهي أبدية، إذ تقررت قبل الدهور فهي
تتخطَّى كل الدهور. وقول بولس الرسول إن الله يعمل “حسب رأي مشيئته” جعل الخلاص
عملاً منتهياً في تدبير الله حسب مسرته. ولكنه يُستعلن حسب تدبير عمل نعمته على
مدى الدهور في الزمن والمكان الذي يحدده، لأنه مرسوم من قبل الدهور وفائق على فحص
الإنسان.
على
أن إرادة الله المتعددة الاتجاهات في أعمالها، إنما تعمل على أساس حرية إرادة
الإنسان. وعلى أساس أن لنا حرية إرادة، يتحتَّم أن تنسجم إرادتنا مع إرادة الله:
+ » إذاً يا أحبائي، كما أطعتم كل حين، ليس كما في حضوري فقط،
بل الآن بالأَوْلَى جداً في غيابي، تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل
فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة. «(في 12:2و13)
هذه أعظم نعمة وهبها الله للإنسان الجديد عندما يكون قد
قَبِلَ الفداء والخلاص، لأن آدم كانت له إرادة حرَّة أيضاً، ولكن إذ كانت تحت
الاختبار لم تكن مُعانة بالنعمة، لذلك سقط بحرية إرادته في المخالفة وأخطأ فاستحق
العقوبة.
فالإنسان الجديد، الذي قَبِلَ الفداء والخلاص، المولود من
فوق من الماء والروح، الحائز على الخلقة الجديدة في المسيح يسوع، المخلوق على صورة
خالقه في البر وقداسة الحق، وقد حرَّره المسيح بالحق؛ أصبحت له إرادة حُرَّة ليست
مستعبدة بعد للخطية: » فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس
بل تحت النعمة «(رو 14:6)، » وإذ أُعتقتم من الخطية صرتم (أحراراً منها)
عبيداً للبر «(رو 18:6). لهذا يقول بولس الرسول: » تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة «(في 12:2)، ولكنه يُعطي سبباً عجيباً مُدهشاً
لضرورة الخوف والرعدة في تكميل خلاصنا وهو لأن حرية إرادتنا أصبحت مُعانة بإرادة
الله وأعمالنا أصبحت مُعانة بعمل الله: » لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا
من أجل المسرة « وهنا وجب الخوف والرعدة في سعينا للخلاص
لئلا تنحرف إرادتنا إلى عودة لعبودية العالم والخطية، فتنتهي حرية الإرادة إلى
عبودية فنفقد في الحال الكل معاً: النعمة ومؤازرة الله للإرادة والعمل؛ فيتوقَّف
خلاصنا ويتعطَّل نمونا وتُداهمنا الحيرة ويتملَّك علينا اليأس.
فانظر، أيها القارئ العزيز، إلى أي مدى بلغت قوة ارتباط
النعمة بحرية إرادة الإنسان لتكميل عمل الخلاص. فعندما قال المسيح: » فإن حرَّركم الابن
فبالحقيقة تكونون أحراراً «(يو 36:8)، فالحرية التي ننالها في المسيح يتحتَّم أن تُنشئ
ارتباطاً أبدياً بالمسيح، وهنا تكون علامة وصدق حرية إرادتنا هي مدى ارتباطنا
بالمسيح وحبُّنا وطاعتنا له. هنا فقط يتوافق عملنا بعمل الله فينا ليتم ويكمل
خلاصنا.
نشرت في مجلة مرقس بتاريخ (يوليو 1997)